فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عطية:

{أَوَلَمْ يَهْد لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا منْ قَبْلهمْ منَ الْقُرُون يَمْشُونَ في مَسَاكنهمْ}.
{يهد} معناه يبين قاله ابن عباس، وقرأ جمهور الناس {يهد} بالياء فالفاعل الله تعالى في قول فرقة والرسول في قول فرقة، كأنه قال: {أو لم يبين لهم الهدى} وجوز الكوفيون أن يكون الفاعل {كم}، ولا يجوز ذلك عند البصريين لأنها في الخبر على حكمها في الاستفهام في أنها لا يعمل فيها ما قبلها، وقرأ أبو عبد الرحمن {نهد} بالنون وهي قراءة الحسن وقتادة، فالفاعل الله تعالى، و{كم} في موضع نصب، فعند الكوفيين ب {نهد} وعند البصريين ب {أهلكنا}، على القراءتين جميعًا، وقرأ جمهور الناس {يَمشون} بفتح الياء وتخفيف الشين، وقرأ ابن السميفع اليماني {يُمَشّون} بضم الياء وفتح الميم وشد الشين، وقرأ عيسى بن عمر {يُمْشُون} بضم الياء وسكون الميم وشين مضمومة مخففة، والضمير في {يمشون} يحتمل أن يكون للمخاطبين بالتنبيه المحتج عليهم، ويحتمل أن يكون للمهلكين ف {يمشون} في موضع الحال، أي أهلكوا وهم ماشون في مساكنهم، والضمير في {يسمعون} للمنبهين، ومعنى هذه الآية إقامة الحجة على الكفرة بالأمم السالفة الذين كفروا فأهلكوا، ثم أقام عز وجل الحجة عليهم في معنى الإيمان بالقدرة وبالبعث بأن نبههم على إحياء الأرض الموات بالماء والنبات، والسوق هو بالسحاب، وإن كان سوق بنهر فأصله من السحاب و{الجرز} الأرض العاطشة التي قد أكلت نباتها من العطش والغيظ، ومنه قيل للأكول جروز. قال الشاعر:
خب جروز وإذا جاع بكى

ومن عبر عنها بأنها الأرض التي لا تنبت فإنها عبارة غير مخلصة، وعم تعالى كل أرض هي بهذه الصفة لأن الآية فيها والعبرة بينة، وقال ابن عباس أيضًا وغيره {الأرض الجرز} أرض أبين من اليمن، وهي أرض تشرب بسيول لا بمطر، وجمهور الناس على ضم الراء، وقال الزجاج وتقرأ: {الجرْز} بسكون الراء، ثم خص تعالى: {الزرع} بالذكر تشريفًا ولأنه عظم ما يقصد من النبات، وإلا فعرف أكل الأنعام إنما هو من غير الزرع، لكنه أوقع الزرع موقع النبات على العموم، ثم فصل ذلك بأكل الأنعام وبني آدم، وقرأ أبو بكر بن عياش وأبو حيوة {يأكل} بالياء من تحت، وقرأ ابن مسعود {يبصرون} وقرأ جمهور الناس {تبصرون} بالتاء من فوق، ثم حكي عن الكفرة أنهم يستفتحون ويستعجلون فصل القضاء بينهم وبين الرسول على معنى الهزء والتكذيب، و{الفتح} الحكم هذا قول جماعة من المفسرين، وهذا أقوى الأقوال، وقالت فرقة الإشارة إلى فتح مكة.
قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف يرده الإخبار بأن الكفرة لا ينفعهم الإيمان، فلم يبق إلا أن يكون {الفتح} إلا إما حكم الآخرة، وهذا قول مجاهد، وإما فصل في الدنيا كبدر ونحوها. وقوله تعالى: {قل يوم الفتح} إشارة إلى {الفتح} الأول حسب محتملاته، فالألف واللام في {الفتح} الثاني للعهد، و{يوم} ظرف، والعامل فيه {ينفع}، و{ينظرون} معناه يؤخرون، ثم أمره تعالى بالإعراض عن الكفار وانتظار الفرج، وهذا مما نسخته آية السيف. وقوله تعالى: {إنهم منتظرون} أي العذاب، بمعنى هذا حكمهم وإن كانوا لا يشعرون، وقرأ محمد بن السميفع {منتظَرون} بفتح الظاء أي للعذاب النازل بهم. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَهْد لَهُمْ}.
وقرأ أبو عبد الرحمن السلميّ وقتادة وأبو زيد عن يعقوب {نَهْد لَهُمْ} بالنون؛ فهذه قراءة بيّنة.
النحاس: وبالياء فيها إشكال؛ لأنه يقال: الفعل لا يخلو من فاعل، فأين الفاعل ل {يهد}؟ فتكلم النحويون في هذا؛ فقال الفراء: {كَمْ} في موضع رفع ب {يهْد}.
وهذا نقض لأصول النحوييّن في قولهم: إن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله ولا في كَمْ بوجهٍ؛ أعني ما قبلها.
ومذهب أبي العباس أن {يهْد} يدلّ على الهُدَى؛ والمعنى أولم يَهْد لهم الهدى.
وقيل: المعنى أولم يهد الله لهم؛ فيكون معنى الياء والنون واحدًا؛ أي أولم نُبَيّن لهم إهلاكنا القرون الكافرة من قبلهم.
وقال الزجاج: كَمْ في موضع نصب ب {أَهْلَكْنَا}.
{لرَجُلٍ} يحتمل الضمير في {يَمْشُونَ} أن يعود على الماشين في مساكن المهلكين؛ أي وهؤلاء يمشون ولا يعتبرون.
ويحتمل أن يعود على المهلَكين فيكون حالًا؛ والمعنى: أهلكناهم ماشين في مساكنهم.
{إنَّ في ذَلكَ لآيَاتٍ أَفَلاَ يَسْمَعُونَ} آيات الله وعظاته فيتعظون.
قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الماء إلَى الأرض الجرز} أي أولم يعلموا كمال قدرتنا بسَوْقنا الماء إلى الأرض اليابسة التي لا نبات فيها لنحييها.
الزّمَخْشَريّ: الجرز الأرض التي جُرز نباتها، أي قُطع؛ إما لعدم الماء وإما لأنه رُعيَ وأزيل.
ولا يقال للتي لا تنبت كالسباخ جُرُز؛ ويدلّ عليه قوله تعالى: {فَنُخْرجُ به زَرْعًا} قال ابن عباس: هي أرض باليمن.
وقال مجاهد: هي أَبْيَن.
وقال عكرمة: هي الأرض الظمآى.
وقال الضحاك: هي الأرض الميتة العَطْشَى.
وقال الفراء: هي الأرض التي لا نبات فيها.
وقال الأصمعيّ: هي الأرض التي لا تنبت شيئًا.
وقال محمد بن يزيد: يبعد أن تكون لأرض بعينها لدخول الألف واللام؛ إلا أنه يجوز على قول من قال: العباس والضحاك.
والإسناد عن ابن عباس صحيحٌ لا مطعن فيه.
وهذا إنما هو نعت والنعت للمعرفة يكون بالألف واللام؛ وهو مشتق من قولهم: رجل جَروز إذا كان لا يبقي شيئًا إلا أكله.
قال الراجز:
خبّ جَروز وإذا جاع بكى ** ويأكل التمر ولا يُلقي النَّوَى

وكذلك ناقةٌ جروز: إذا كانت تأكل كل شيء تجده.
وسيف جُراز: أي قاطع ماضٍ.
وَجَرَزت الجراد الزرع: إذا استأصلته بالأكل.
وحكى الفرّاء وغيره أنه يقال: أرض جُرْز وجُرُز وجَرْز وجَرَز.
وكذلك بخل ورغب ورهب؛ في الأربعة أربع لغات.
وقد روي أن هذه الأرض لا أنهار فيها، وهي بعيدة من البحر، وإنما يأتيها في كل عام ودَان فيزرعون ثلاث مرات في كل عام.
وعن مجاهد أيضًا: أنها أرض النيل.
{فَنُخْرجُ به} أي بالماء.
{زَرْعًا تَأْكُلُ منْهُ أَنْعَامُهُمْ} من الكلأ والحشيش.
{وَأَنفُسُهُمْ} من الحبّ والخضر والفواكه.
{يُبْصرُونَ} هذا فيعلمون أنا نقدر على إعادتهم.
و{فَنُخْرجُ} يكون معطوفًا على {نَسُوقُ} أو منقطعًا مما قبله.
{تَأْكُلُ منْهُ أَنعَامهم} في موضع نصب على النعت.
قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ متى هذا الفتح إن كُنتُمْ صَادقينَ}.
{مَتَى} في موضع رفع، ويجوز أن يكون في موضع نصب على الظرف.
قال قتادة: الفتح القضاء.
وقال الفراء والقُتَبيّ: يعني فتح مكة.
وأوْلى من هذا ما قاله مجاهد، قال: يعني يوم القيامة.
ويروى أن المؤمنين قالوا: سيحكم الله عز وجل بيننا يوم القيامة فيثيب المحسن ويعاقب المسيء.
فقال الكفار على التّهزيء: متى يوم الفتح، أي هذا الحكم.
ويقال للحاكم: فاتح وفتاح؛ لأن الأشياء تنفتح على يديه وتنفصل.
وفي القرآن: {رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمنَا بالحق} [الأعراف: 89] وقد مضى هذا في البقرة وغيرها.
{قُلْ يَوْمَ الفتح} على الظرف.
وأجاز الفراء الرفع.
{لاَ يَنفَعُ الذين كفروا إيَمَانُهُمْ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ} أي يؤخرون ويمهلون للتوبة؛ إن كان يوم الفتح يومَ بدر أو فتح مكة.
ففي بدر قُتلوا، ويوم الفتح هربوا فلحقهم خالد بن الوليد فقتلهم.
قوله تعالى: {فَأَعْرضْ عَنْهُمْ}.
قيل: معناه فأعرض عن سفههم ولا تجبهم إلا بما أمرت به.
{وانتظر إنَّهُمْ مُّنتَظرُونَ} أي انتظر يوم الفتح، يوم يحكم الله لك عليهم.
ابن عباس: {فَأَعْرضْ عَنْهُمْ} أي عن مشركي قريش مكة، وأن هذا منسوخ بالسيف في براءة في قوله: {فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} [التوبة: 5].
{وَانْتَظرْ} أي موعدي لك قيل: يعني يوم بدر.
{إنَّهُمْ مُّنتَظرُونَ} أي ينتظرون بكم حوادث الزمان.
وقيل: الآية غير منسوخة؛ إذ قد يقع الإعراض مع الأمر بالقتال كالهُدْنة وغيرها.
وقيل: أعرض عنهم بعد ما بَلغت الحجة، وانتظر إنهم منتظرون.
إن قيل: كيف ينتظرون القيامة وهم لا يؤمنون؟ ففي هذا جوابان: أحدهما: أن يكون المعنى إنهم منتظرون الموت وهو من أسباب القيامة؛ فيكون هذا مجازًا.
والآخر: أن فيهم من يشك وفيهم من يؤمن بالقيامة؛ فيكون هذا جوابًا لهذين الصنفين.
والله أعلم.
وقرأ ابن السَّمَيْقَع: {إنَّهُمْ مُنْتَظَرُونَ} بفتح الظاء ورويت عن مجاهد وابن مُحَيْصن.
قال الفراء: لا يصح هذا إلا بإضمار، مجازه: إنهم منتظرون بهم.
قال أبو حاتم: الصحيح الكسر؛ أي انتظر عذابهم إنهم منتظرون هلاكك.
وقد قيل: إنّ قراءة ابن السَّمَيْقَع بفتح الظاء معناها: وانتظر هلاكهم فإنهم أحقاء بأن يُنْتظر هلاكهم؛ يعني أنهم هالكون لا محالة، وانتظر ذلك فإن الملائكة في السماء ينتظرونه؛ ذكره الزمخشريّ.
وهو معنى قول الفرّاء. والله أعلم. اهـ.

.قال أبو السعود:

{أَوَلَمْ يَهْد لَهُمْ} الهمزةُ للإنكار والواوُ للعطف على منويَ يقتضيه المقامُ من فعل الهداية. إما من قولهم: فلانٌ يعطي في أنَّ المرادَ إيقاعُ نفس الفعل بلا ملاحظة المفعول وإمَّا بمعنى التَّبيين والمفعولُ محذوفٌ والفاعلُ ما دلَّ عليه قوله تعالى: {كَمْ أَهْلَكْنَا} أي أغفلُوا ولم يفعل الهدايةَ لهم أو ولم يبيّن لهم مآل أمرهم كثرةُ إهلاكنا {من قَبْلهمْ مّنَ القرون} مثلُ عادٍ وثمودٍ وقوم لوطٍ. وقُرىء نهد لهم بنون العظمة وقد جُوّز أن يكونَ الفاعلُ على القراءة الأولى أيضًا ضميرُه تعالى فيكون قوله تعالى: {كَمْ أَهْلَكْنَا} الخ، استئنافًا مبيّنًا لكيفيَّة هدايته تعالى: {يَمْشُونَ في مساكنهم} أي يمرُّون في متاجرهم على ديارهم وبلادهم ويشاهدُون آثارَ هلاكهم. والجملةُ حالٌ من ضمير لَهُم. وقُرىء يمشُون للتَّكثير {إنَّ في ذَلكَ} أي فيما ذُكر من كثرة إهلاكنا للأمم الخالية العاتية أو في مساكنهم {لآيَاتٍ} عظيمةً في أنفسها كثيرةً في عددها {أَفَلاَ يَسْمَعُونَ} هذه الآيات سماعَ تدبرٍ واتّعاظٍ {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الماء إلَى الأرض الجرز} أي التي جَرزَ نباتُها أي قُطع وأُزيل بالمرَّة وقيل: هو اسمُ موضعٍ باليمن {فَنُخْرجُ به} من تلك الأرض {زَرْعًا تَأْكُلُ منْهُ} أي من ذلك الزَّرع {أنعامهم} كالتّبن والقصيل والورق وبعض الحبوب المخصوصة بها. وقُرىء يأكلُ بالياء {وَأَنفُسهمْ} كالحبوب التي يقتاتُها الإنسانُ والثمار {أَفَلاَ يُبْصرُونَ} أي ألا ينظرون فلا يُبصرون ذلك ليستدلُّوا به على كمال قدرته تعالى وفضله.
{وَيَقُولُونَ} كان المسلمونَ يقولون: إنَّ الله سيفتحُ لنا على المشركين أو يفصلُ بيننا وبينهم كان أهلُ مكَّةَ إذا سمعُوه يقولون بطريق الاستعجال تكذيبًا واستهزاءً: {متى هذا الفتح} أي النَّصرُ أو الفصلُ بالحكومة {إن كُنتُمْ صادقين} في أنَّ الله تعالى ينصرُكم أو يفصلُ بيننا وبينكم {قُلْ} تبكيتًا لهم وتحقيقًا للحقّ {يَوْمَ الفتح لاَ يَنفَعُ الذين كَفَرُوا إيمانهم وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ} يومُ الفتح يومُ القيامة وهو يومُ الفصل بين المؤمنين وأعدائهم ويومُ نصرهم عليهم وقيل: هو يومُ بدرٍ. وعن مجاهدٍ والحسن: يومُ فتح مكَّةَ. والعدولُ عن تطبيق الجواب على ظاهر سؤالهم للتَّنبيه على أنَّه ليس ممَّا ينبغي أنْ يسألَ عنه لكونه أمرًا بيّنًا غنيًا عن الإخبار به وكذا إيمانُهم واستنظارُهم يومئذٍ وإنَّما المحتاجُ إلى البيان عدمُ نفع ذلك الإيمان وعدمُ الإنظار كأنَّه قيل: لا تستعجلُوا فكأنّي بكم قد آمنتُم فلم ينفعْكم واستنظرتُم فلم تُنظروا، وهذا على الوجه الأول ظاهرٌ وأمَّا على الأخيرين فالموصولُ عبارةٌ عن المقتولينَ يومئذٍ لا عن كافَّة الكَفَرة كما في الوجه الأول كيف لا وقد نفعَ الإيمانُ الطُّلقاءَ يومَ الفتح وناسًا أمنُوا يومَ بدرٍ {فَأَعْرضْ عَنْهُمْ} ولا تُبال بتكذيبهم {وانتظر} النُّصرةَ عليهم وهلاكَهم {إنَّهُمْ مُّنتَظرُونَ} قيل: أي الغلبةَ عليكم كقوله تعالى: {فَتَرَبَّصُوا إنَّا مَعَكُمْ مُّتَرَبّصُونَ} والأظهرُ أنْ يقالَ: إنَّهم منتظرون هلاكَهم كما في قوله تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إلاَّ أَن يَأْتيَهُمُ الله في ظُلَلٍ مّنَ الغمام} الآيةَ، ويقرُبُ منه ما قيلَ وانتظرْ عذابَنا إنَّهم مُنتظروه فإنَّ استعجالَهم المذكورَ وعكوفَهم على ما هُم عليه من الكُفر والمَعاصي في حُكم انتظارهم العذابَ المترتّبَ عليه لا محالةَ. وقُرىء على صيغة المفعول على مَعْنى أنَّهم أحقَّاءُ بأنْ يُنتظرَ هلاكُهم أو فإنَّ الملائكةَ ينتظرونَهُ. اهـ.